ما يلي نقلته بالكامل من كتاب " نظرات في مسيرة العمل الإسلامي " للإمام محمد الغزالي رحمه الله
و هو موجود على الرابط
http://www.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=A&BabId=14&ChapterId=14&BookId=208&CatId=201&startno=0
نقلته بالكامل على طوله إلا أنه يحتوي على فائدة كبيرة
أتركه لكم لتقرأوه
===============================
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) (النساء:66 )
إن نهوض المسلمين وتقدمهم، وردم فجوة السقوط الحضاري التي يعانون منها، واختصار فترة التخلف التي ما تزال تتسع بشكل رعيب، مرهون إلى حد بعيد بإعادة فهمهم للإسلام، وإدانة الكثير من المفهومات التي استغلقت في أذهانهم، وأظلوها بمظلة الإسلام، فأورثت الكثير من التواكل، والعجز، والقعود، وانطفاء الفاعلية، والنكوص عن إدراك شروط النهضة، وفهم سنن الله في الآفاق والأنفس، وحسن تسخيرها وكيفية التعامل معها، وتسييرها دافعة عجلة الحضارة، مؤديه وظيفة عمارة الأرض على الصورة التي أرادها الله: كما أورثت تمزيق الرؤية الإسلامية الشاملة، وتقطيعها إلى أبعاض وتفاريق، يعيشها مسلم اليوم عاجزاً عن النظرة الكلية الشاملة، الأمر الذي أفقده التوازن النفسي، الذي يمكنه من وضع الأمور في نصابها وإعطائها ما تستحق من الحيّز والمكانة في سلم الحياة الإجتماعية، ذلك أن فقدان التوازن النفسي يقود بالتالي إلى ما هو أخطر، يقود إلى عملية الانكسار أمام المجتمعات والمباديء غير الإسلامية، وعدم القدرة على التعامل معها، ومن ثم هدايتها، فيكون الانسحاب من المجتمع وتكون السلبية وبعض الممارسات الخاطئة، والانخداع بأن هذا هو الفهم السوي، الذي لا فهم سواه ولا يعدم صاحب هذه النظرة الجزئية القاصرة عن الرؤية الشاملة العاجزة عن الإدراك الكامل، أن يجد بعض الآيات التي يقطعها عن سياقها، ويجردها، عن أسباب نزولها، يبرر بها موقفه، ويسوغ سلوكه، وقد يحدث الوجه الآخر لفقدان حالة التوازن النفسي والاجتماعي، بسبب من النظرة الجزئية هذه، ويحدث الذوبان في المجتمع، وإعلان العجز، وافتقاد القدرة على التغيير، وانطفاء الفاعلية، والاستسلام للواقع، باسم الواقعية ورفع شعار: (إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ).. ويذهب في تفسير القدر إلى صور ما أنزل الله بها من سلطان، صور تغتال العمل، وتقتل الأمل، وتعطل موازين الثواب والعقاب، وتسوي بين المجاهد والقاعد، فالواقع على عوجه وفجوره لا يخرج في نظره عن أن يكون قدراً من الله، لا يجوز مواجهته وتغييره، وأن أية محاولة في هذا السبيل تعتبر محاربة لقدر الله، ولو أراد الله غير هذا لبدّل الواقع !!
يرى أنه لا يخرج عن كونه ريشة في مهب الريح، هكذا بهذه البساطة وهذا التصور المحزن، وهذا الفهم العليل يضرب بفهم الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم للقرآن، وبسنته العملية في البيان، وبكل الإنجازات الحضارية التي قدمها المسلمون، على مختلف الأصعدة والمستويات، عرض الحائط، ليصبح فهمه هو للإسلام الذي تشكل من خلال مكوناته النفسية، وإمكاناته العقلية، وثقافته الجزئية، وظروفه الاجتماعية، هو الحجة، وهو البنية ولو أدى ذلك إلى التعسف في تفسير الآيات وفهم الأحاديث وتطويعها لتوافق هواه..
ذهاب العلم
ونستطيع أن نؤكد مطمئنين أن فهمنا للإسلام الذي نحن عليه، والذي نرى صوره وآثاره السلوكية هنا وهناك ـ إلا من رحم الله ـ يغاير فهم الصحابة.. والإسلام هو الإسلام، ولعل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه زياد بن لبيد ما يدل دلالة واضحة على ما نحن عليه:
أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة بإسناد صحيح، من حديث زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: (وذاك عند ذهاب العلم ) قال : قلنا يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ فقال:
(ثكلتك أمك يا لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ).. وفي رواية: ( أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ).
فهل انتقلت إلينا عدوى علل أهل الكتاب حذرنا الله من السقوط فيها والانتهاء إليها؟!!
من هنا فإننا لا نغالي، ولا نجافي الحقيقة، عندما نقول: إن مشكلة المسلمين اليوم لا تخرج عن كونها مشكلة ثقافية بالمفهوم الشامل لمصطلح الثقافة، وإن كل مظاهر الأمراض التي نراها، وصور التخلف التي نعيشعها، لا تخرج عن كونها أعراضاً لمشكلتنا الثقافية، وهنا يتجدد الطريق ويتوحد الحل، وذلك بمعالجة المشكلة الثقافية وتصويب المسار الثقافي، وتنقية عالم أفكارنا من كل دخيل وعارض، والتخلص من المناخ الثقافي غير الإسلامي الذي يقطع رؤيتنا الإسلامية ويمزقها، ويمارس ضغوطه المختلفة علينا فيشوه نظرتنا، ويخرج مقياسها الذي يمكَّننا من التحكم بالمعطيات الحضارية، ويمنحنا القدرة على الأخذ والترك، ويُعجزنا أن نكون في سوية القدرة على الرؤية القرآنية والاستجابة لها..
إن المناخ الثقافي غير الإسلامي، الذي تشكل بسبب من الغزو الفكري، والذي كان من أخطر آثاره: تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة، والانتهاء بنا إلى صور من الممارسات الفاقدة للبصر والبصيرة، وحسن الدراية والفقه، ورسم المداخل الصحيحة للواقع الذي نعيشه، وتحديد موقعنا منه وامتلاك الوسائل المناسبة لحسن التعامل معه، وإيصال دعوة الله إليه.. هو الذي يتحكم في رؤيتنا الإسلامية وممارستنا العملية.
استحضار البعد الإيماني الغيبي
ونريد هنا أن ننبه إلى أمر، نعتبر الانتباه إليه على غاية من الأهمية، ذلك أننا لا نعني بقولنا: إن مشكلة المسلمين اليوم هي مشكلة ثقافية، وما نعاني منه لا يخرج عن كونه مظهراً لها، أن مشكلة المسلمين مفتقرة إلى وجود فلسفة، أو الحصول على معرفة بقراءة كتاب معين، أو الاطلاع على كتاب في الأحكام الفقهية، أو بعض المصطلحات والقدرة على استعمالها بعيداً عن التربية الميدانية والتدريب على المعاني الإسلامية والمجاهدة والجهاد، وإنما الذي نعني بالقضية الثقافية التي تشكل بمجموعها مشكلة المسلمين: استقامة النظرة،وانضباط المنهج، وسلامة الممارسة، وحسن الفقه والدراية لواقع المجتمع، والمساهمة بصياغته صياغة إسلامية، وتقويم الأفكار المعوجة وتحصيل الإرادةالعامة، واستعادة الفاعلية التي ولدها الإيمان وسددتها التقوى ليصبح ذلك روح الأمة وضميرها، وهاجسها الدائم، وقوتها اليومي، وعدم اقتصار ذلك على فرد أوفرد أو جماعة في عالم المسلمين ..
المقصود بالثقافة هنا: الممارسة الإسلامية واستحضار البعد الإيماني الغيبي في العقيدة والحركة ، والضابط الأخلاقي الموجه الصحيح لسلوك الإنسان في الممارسات، وليس العلم بالشيء فقط والقعود عن السلوك والممارسة، ذلك أن العلم على أهميته وضرورته عن أن يكون بعض جوانب القضية..
إن مشكلة الثقافة لا تضم في مفهومها قضية الأفكار فحسب، وبذلك ينقلب العمل للإسلام إلى نادٍ فكري أو تجمع سياسي (أيديلوجي ) أو قطاع فلسفي،وإنما هي تشمل قضايا أعم من ذلك بكثير، إنها تعني فيما تعني: أسلوب الحياة في مجتمع معين، والسلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الأفراد في ذلك المجتمع، والتدريب العملي اليومي على ذلك، وتوازن الأبعاد في الإنسان المسلم وتوازي الخطوط للشخصية الإسلامية وعدم تقاطعها، إنها مجموعة العناصر الجوهرية في بناء الفرد والمجتمع..
الثقافة هي الجو والمناخ الذي يمتص فيه الفرد تلقائياً عناصر معينة فينطبع بها سلوكه وتوجهه الفكري، فيندفع إلى إتقان العمل وحسن الأداء، وديمومة البحث والتعرف على سنن الله في الآفاق لتسخيرها وحسن التعامل معها، وسننه في الأنفس لتربيتها وتوجيهها وتغييرها صوب الهدف الإسلامي الواحد، وقد يخطر ببال بعضهم أننا بذلك نريد مزيداً من الكتب نضيفها إلى المكتبة الإسلامية المترعة بالمفيد وغير المفيد، أو مزيداً من القراءة والمدارسة النظرية فقط بعيداً عن الممارسة والتربية الميدانية، أو يشتم من وراء الكلام توجهاً تربوياً أو خطاً تربوياً مقابلاً لغيره، يأتي كرد فعل لواقع معين، أو نريد للعمل الإسلامي أن ينقلب إلى مدرسة فكرية، والذي يدفع إلى هذا التصور هو عدم القدرة على الرؤية الكلية والعيش على صورة جزئية يعتبرها البداية والنهاية، ويعجز عن إدراك ما سواها مما قد يكون من مكملاتها.
والذي نريد أن يكون واضحاً ابتداءً: أننا نحاول أن نتلمس الطريق من خلال الحقائق الإسلامية والتربية الإسلامية والرؤية الإسلامية الشاملة والتربية العملية في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة.. إلى جانب استحضار العبرة من التجارب الإسلامية الكثيرة.
إن هذا التمزيق وهذا التجزىء والتقطيع في الرؤية الإسلامية مرفوض، وهو الذي يقبع وراء الكثير من معاناتنا، إننا لا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى مجموعة سواعد فقط يمكن أن تستخدم كوقود في معارك لا يكون للإسلام فيها نصيب، ويسهل خداعها بالبرق الخلبي أو بالفجر الكاذب، ووضعها في موقف حرج يسهل توظيفها واحتواءها، ولا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى ساحة استرخاء فلسفي، واجترار نظري، ومعارف باردة، وفقه أوراق ، وإيثار للراحة .
إعادة تشكيل الرؤية الإسلامية
إن المقياس والميزان الذي يحكم أعمالنا وأقوالنا هو ميزان الإسلام، وليس سلوك فرد أو جماعة أو مؤسسة مهما كان عنوانها كبيراً، ولا يمكن لأحد اليوم من القادرين على النظر والتبصر، الناظرين إلى مواقع العمل والجهاد في العالم الإسلامي، وبعض صور التضحية الرائعة التي تقدم النفس والمال، وتستسهل في سبيل الله كل شيء، وتستهين بالدنيا والتي يمكن أن تنتسب في إخلاصها وتضحيتها إلى عصر الصحابة والتابعين، لا يمكن لأحد أن يتهمها بعدم الإخلاص بعد هذا الذي قدمته، وإنما تبقى المشكلة كل المشكلة بالقدرة على الصواب والتصويب وتحقيق الشروط الفنية، وحسن الاستفادة من هذه الطاقات ووضعها في مكانها الذي هو مسؤولية القائمين على العمل الإسلامي، للأخذ بيد المخلصين في الطريق الصحية، وترجمة هذا الإخلاص إلى مردود إسلامي يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين.
وهنا نرى أنفسنا مضطرين إلى العودة أكثر من مرة إلى إيضاح مظهر من مظاهر القضية الثقافية نعاني منه على أكثر من مستوى، ونظن أنه يأتي في مقدمة المشكلات التي تجب معالجتها ومطاردتها، ونحن في الطريق إلى صياغة الفرد المسلم، وإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية الشاملة.
إن الهروب من بحث المشكلة والتستر عليها عليها، أو عدم إعطائها ما تستحق من المدارسة والدرس، والإيضاح والتدريب والأضواء الإضافية، يعني أول ما يعني: القبول بواقع المسلمين، ومواقع نشر الدعوة والعمل الإسلامي؛ وهذه تتلخص في السؤال التالي:
هل الانتماء للإسلام أم للجماعات والمؤسسات؟ وهل الالتزام بالأفكار أم بالأشخاص؟ ..
إن هذه القضية لا تعتبر مشكلة من الناحية النظرية، ولو كان ذلك كذلك لكان بالإمكان الحصول على الجواب الصحيح بسهولة، لكنها تبقى مشكلة على مستوى الممارسة والتطبيق، وكثيراً ما استهلك المسلمون من أوقاتهم وجهودهم تاريخيا، ولم تكن المشكلة التي يعانو ن منها مشكلة أفكار وإنما كانت مشكلة الاختلاف على أشخاص وظفت لها الأفكار وفصلت عليها الأحكام، وامتلأت الساحة الإسلامية بكثير من الإقطاعات البشرية والولاءات الشخصية كانت السبب الكبير في التدمير والقيل والقال وضياع العمر وذهاب الأجر .
الرشد الإنساني
ولا شك عندنا أن الانتماء للإسلام والالتزام بالمنهج، والطاعة المبصرة ، ضرورة لسلامة الطريق، ودليل الرشد الإنساني والحصانة الأكيدة ضد صور الإحباط والانكسار التي يمكن أن تلحق بالجيل نتيجة الانتماء للأشخاص، والعدول عن الانتماء للإسلام، وأن المطلوب إسلامية الإلتقاء مع الأشخاص على المنهج الصحيح والافتراق عليه (.. ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وافترقا عليه )؛ فالقيم الإسلا مية ثابتة معصومة، والأشخاص أعراض زائلون، والأحياء لا تؤمن عليهم الفتنة، وإن ميزان الكرامة: التقوى والعمل الصالح، وإن الذي يهمنا ويشكل المخرج الصحيح من مأساتنا هو: الحكم على العمل ومدى انطباقه على المنهج الإسلامي والقدرة على تمييز الخطأ والصواب، وإعطاء العلامة للأعمال وليس للأشخاص، والالتزام بالأدب الإسلامي عند وجود الخلاف..
فالأشخاص يقاسون بالمنهج الإسلامي والقيم الإسلامية، ولا يقاس الإسلام بهم مهما علا شأنهم، والذي يمثل محل الأسوة والقدوة بالنسبة للمسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام..
وكل البشر يخطىء ويصيب ، ويؤخذ من كلامه ويرد إلاّ المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا في نظرنا يشكل الضمانة الأكيدة لسلامة العمل واستمراره وسداده.. ذلك أن المشكلة في التصور الإسلامي الآ ن، كما يبدو أننا قد نصل في تقديس الأشخاص إلى العصمة عن الخطأ ـ إلى مرحلة الملائكة ـ فإذا تكشف لنا شيء من الخطأ ـ وهذا أمر طبيعي وكل ابن آدم خطاء ـ أنزلناهم فوراً إلى مرحلة الشياطين.. لذلك يقتصر التعامل في نظرنا إما مع ملائكة لا تخطىء أو مع شياطين جبلت على الخطأ والخطيئة !! أما التعامل مع البشر الذي يخطىء ويصيب، والقدرة على إبصار الصواب والخطأ وإعطاء كل أمر علامته، وعدم بخس الناس أشياءهم، فهذا لا يزال غائباً عن حياة بعض مسلمي اليوم.. والله تعالى يقول: (ويل للمطففين ) وبعضنا يظن أن التطفيف إنما يكون في الميزان والكيل فقط..
إن القيم معصومة وثابتة، كما قدمنا، والأشخاص أعراض زائلون وبشر خطاؤون، وقد تسقطهم أخطاؤهم، وقد يسقطهم أعداء الإسلام بوسائلهم الماكرة التي تتوجه أول ما تتوجه للدعاة لتحطيمهم، وذلك بإساءة سمعتهم، وقد تستطيع احتواء بعضهم وتوظيفه لسبب أو لآخر من رغبة أو رهبة، وقد يسقطون من تلقاء أنفسهم لأن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولا سبيل إلى الحصانة ضد صور الانكسار والإحباط والتمزق إلا الالتزام بالقيم، والاعتصام بالكتاب والسنة، فهو الطريق الذي يبعث الأمل، ويدفع إلى العمل، ويقضي على اليأس والقنوط.
إن الالتقاء مع الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات وسيلة وليس غاية بحد ذاته، الغاية تبقى دائماً: إرضاء الله ولا يجوز بحال من الأحول أن تنقلب الوسائل غايات أو تتلبس الوسائل بالغايات.. فيصبح شعارنا: خطأ الشيخ خير من صواب المريد !! كما قدمنا، وتسود مناخنا الثقافي الإسلامي مفهومات مغلوطة.. وتتوقف عملية المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صانت الرسالة الإسلامية والأمة الإسلامية في تاريخها الطويل من الانحراف، وحملتها على الولاء للمنهج وعدم التحريف والشذوذ الجماعي والعثرات المردية على طريقها الطويل، وحفظت القادة والزعماء والدعاة والمفكرين والعلماء من الافتتان بالرأي، والإعجاب بالنفس، والانزلاق بالخطأ، كما حفظت الأمة أن تقع فريسة لشذوذ أو تطرف أو غلو أو تعثر أو تمزق.
أهمية الرقابة العامة
هذا وقد تختلط قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة في بعض الأذهان اختلاطاً يكون من تلبيسات الشيطان، فتوهم أنها تتعارض مع مصلحة الإسلام أو جماعات المسلمين في عصر من العصور.. فيسود الإرهاب الفكري ويضمن الشيطان استمرار الانحراف ومتابعة الإنزلاق .
ولو أخذ المسلمون في اعتبارهم في الماضي أن حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى إحداث تشويش أو اضطراب في الصفوف، وكفوا عن التنبيه عن الزلل والخطأ باسم وحدة الصف أو وحدة الأمة، لا نقطع المؤشر الحيوي، وهذا الضابط اللازم لكشف التيارات البعيدة عن هذا الدين باسم الدين، واختفاء كثير من الحقائق الإسلامية عن ساحة التصور الإسلامي السليم والثقافة الإسلامية الرشيدة..
إن التستر على الأخطاء باسم المصلحة العامة وحفظ الكيان، والتوهم بأن النصحية لأئمة المسلمين وعامتهم تودي إلى البلبلة والتمزق أمر خطير، وتكون محلاً للّعن الذي قصه الله على لسان الأنبياء لبني إسرائيل.. قال تعالى:
(لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكرفعلوه لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة:78).
لذلك يبقى تصويب الخطوة وصوابها هو الأصل في نظرنا، وذلك مهما كانت مساحتها محدودة، وسيرها بطيئاً أن نكون على المحجة البيضاء النقية، ونستفرغ جهدنا في الإعداد والاستعداد، والبذل والعطاء، مستشعرين الأبعاد الإيمانية والأخلاقية لحركتنا وسيرنا وسلوكنا، أمناء على انتقال القيم الإسلامية صافية سليمة للجيل القادم، فقد يستبطىء بعضنا ثمرات الصواب ويقتضيه الاستعجال السير بخطوات عريضة، وقد يتجاوز بعض الحواجز الإسلامية، ويتساهل ببعض الضوابط الأخلاقية الإيمانية بوفرة النتائج وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة وارتكاب أخف الضررين، ويظن في بعض المراحل أنه قادر على ذلك فيدع المركب السهل المشروع إلى المركب الصعب غير المأمون..
وبعد: فهل نصغي من جديد إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )..
وقد يكون المطلوب الآن وأكثر من أي وقت مضى: العودة إلى تجديد الفهم للإسلام، واستبدال الممارسة للحياة الإسلامية..
[ربيع الآخر: 1403 هـ كانون الثاني (يناير): 1983م]
=======================================
هذا الكلام من 30 عام تقريبا ً
و هو موجود على الرابط
http://www.islamweb.net/newlibrary/display_umma.php?lang=A&BabId=14&ChapterId=14&BookId=208&CatId=201&startno=0
نقلته بالكامل على طوله إلا أنه يحتوي على فائدة كبيرة
أتركه لكم لتقرأوه
===============================
ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً ) (النساء:66 )
إن نهوض المسلمين وتقدمهم، وردم فجوة السقوط الحضاري التي يعانون منها، واختصار فترة التخلف التي ما تزال تتسع بشكل رعيب، مرهون إلى حد بعيد بإعادة فهمهم للإسلام، وإدانة الكثير من المفهومات التي استغلقت في أذهانهم، وأظلوها بمظلة الإسلام، فأورثت الكثير من التواكل، والعجز، والقعود، وانطفاء الفاعلية، والنكوص عن إدراك شروط النهضة، وفهم سنن الله في الآفاق والأنفس، وحسن تسخيرها وكيفية التعامل معها، وتسييرها دافعة عجلة الحضارة، مؤديه وظيفة عمارة الأرض على الصورة التي أرادها الله: كما أورثت تمزيق الرؤية الإسلامية الشاملة، وتقطيعها إلى أبعاض وتفاريق، يعيشها مسلم اليوم عاجزاً عن النظرة الكلية الشاملة، الأمر الذي أفقده التوازن النفسي، الذي يمكنه من وضع الأمور في نصابها وإعطائها ما تستحق من الحيّز والمكانة في سلم الحياة الإجتماعية، ذلك أن فقدان التوازن النفسي يقود بالتالي إلى ما هو أخطر، يقود إلى عملية الانكسار أمام المجتمعات والمباديء غير الإسلامية، وعدم القدرة على التعامل معها، ومن ثم هدايتها، فيكون الانسحاب من المجتمع وتكون السلبية وبعض الممارسات الخاطئة، والانخداع بأن هذا هو الفهم السوي، الذي لا فهم سواه ولا يعدم صاحب هذه النظرة الجزئية القاصرة عن الرؤية الشاملة العاجزة عن الإدراك الكامل، أن يجد بعض الآيات التي يقطعها عن سياقها، ويجردها، عن أسباب نزولها، يبرر بها موقفه، ويسوغ سلوكه، وقد يحدث الوجه الآخر لفقدان حالة التوازن النفسي والاجتماعي، بسبب من النظرة الجزئية هذه، ويحدث الذوبان في المجتمع، وإعلان العجز، وافتقاد القدرة على التغيير، وانطفاء الفاعلية، والاستسلام للواقع، باسم الواقعية ورفع شعار: (إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون ).. ويذهب في تفسير القدر إلى صور ما أنزل الله بها من سلطان، صور تغتال العمل، وتقتل الأمل، وتعطل موازين الثواب والعقاب، وتسوي بين المجاهد والقاعد، فالواقع على عوجه وفجوره لا يخرج في نظره عن أن يكون قدراً من الله، لا يجوز مواجهته وتغييره، وأن أية محاولة في هذا السبيل تعتبر محاربة لقدر الله، ولو أراد الله غير هذا لبدّل الواقع !!
يرى أنه لا يخرج عن كونه ريشة في مهب الريح، هكذا بهذه البساطة وهذا التصور المحزن، وهذا الفهم العليل يضرب بفهم الرسول القدوة صلى الله عليه وسلم للقرآن، وبسنته العملية في البيان، وبكل الإنجازات الحضارية التي قدمها المسلمون، على مختلف الأصعدة والمستويات، عرض الحائط، ليصبح فهمه هو للإسلام الذي تشكل من خلال مكوناته النفسية، وإمكاناته العقلية، وثقافته الجزئية، وظروفه الاجتماعية، هو الحجة، وهو البنية ولو أدى ذلك إلى التعسف في تفسير الآيات وفهم الأحاديث وتطويعها لتوافق هواه..
ذهاب العلم
ونستطيع أن نؤكد مطمئنين أن فهمنا للإسلام الذي نحن عليه، والذي نرى صوره وآثاره السلوكية هنا وهناك ـ إلا من رحم الله ـ يغاير فهم الصحابة.. والإسلام هو الإسلام، ولعل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يرويه زياد بن لبيد ما يدل دلالة واضحة على ما نحن عليه:
أخرج الإمام أحمد في مسنده، وابن ماجة بإسناد صحيح، من حديث زياد بن لبيد قال: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: (وذاك عند ذهاب العلم ) قال : قلنا يا رسول الله، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم، إلى يوم القيامة؟ فقال:
(ثكلتك أمك يا لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل بالمدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء ).. وفي رواية: ( أوليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله ).
فهل انتقلت إلينا عدوى علل أهل الكتاب حذرنا الله من السقوط فيها والانتهاء إليها؟!!
من هنا فإننا لا نغالي، ولا نجافي الحقيقة، عندما نقول: إن مشكلة المسلمين اليوم لا تخرج عن كونها مشكلة ثقافية بالمفهوم الشامل لمصطلح الثقافة، وإن كل مظاهر الأمراض التي نراها، وصور التخلف التي نعيشعها، لا تخرج عن كونها أعراضاً لمشكلتنا الثقافية، وهنا يتجدد الطريق ويتوحد الحل، وذلك بمعالجة المشكلة الثقافية وتصويب المسار الثقافي، وتنقية عالم أفكارنا من كل دخيل وعارض، والتخلص من المناخ الثقافي غير الإسلامي الذي يقطع رؤيتنا الإسلامية ويمزقها، ويمارس ضغوطه المختلفة علينا فيشوه نظرتنا، ويخرج مقياسها الذي يمكَّننا من التحكم بالمعطيات الحضارية، ويمنحنا القدرة على الأخذ والترك، ويُعجزنا أن نكون في سوية القدرة على الرؤية القرآنية والاستجابة لها..
إن المناخ الثقافي غير الإسلامي، الذي تشكل بسبب من الغزو الفكري، والذي كان من أخطر آثاره: تدمير الرؤية الإسلامية الشاملة، والانتهاء بنا إلى صور من الممارسات الفاقدة للبصر والبصيرة، وحسن الدراية والفقه، ورسم المداخل الصحيحة للواقع الذي نعيشه، وتحديد موقعنا منه وامتلاك الوسائل المناسبة لحسن التعامل معه، وإيصال دعوة الله إليه.. هو الذي يتحكم في رؤيتنا الإسلامية وممارستنا العملية.
استحضار البعد الإيماني الغيبي
ونريد هنا أن ننبه إلى أمر، نعتبر الانتباه إليه على غاية من الأهمية، ذلك أننا لا نعني بقولنا: إن مشكلة المسلمين اليوم هي مشكلة ثقافية، وما نعاني منه لا يخرج عن كونه مظهراً لها، أن مشكلة المسلمين مفتقرة إلى وجود فلسفة، أو الحصول على معرفة بقراءة كتاب معين، أو الاطلاع على كتاب في الأحكام الفقهية، أو بعض المصطلحات والقدرة على استعمالها بعيداً عن التربية الميدانية والتدريب على المعاني الإسلامية والمجاهدة والجهاد، وإنما الذي نعني بالقضية الثقافية التي تشكل بمجموعها مشكلة المسلمين: استقامة النظرة،وانضباط المنهج، وسلامة الممارسة، وحسن الفقه والدراية لواقع المجتمع، والمساهمة بصياغته صياغة إسلامية، وتقويم الأفكار المعوجة وتحصيل الإرادةالعامة، واستعادة الفاعلية التي ولدها الإيمان وسددتها التقوى ليصبح ذلك روح الأمة وضميرها، وهاجسها الدائم، وقوتها اليومي، وعدم اقتصار ذلك على فرد أوفرد أو جماعة في عالم المسلمين ..
المقصود بالثقافة هنا: الممارسة الإسلامية واستحضار البعد الإيماني الغيبي في العقيدة والحركة ، والضابط الأخلاقي الموجه الصحيح لسلوك الإنسان في الممارسات، وليس العلم بالشيء فقط والقعود عن السلوك والممارسة، ذلك أن العلم على أهميته وضرورته عن أن يكون بعض جوانب القضية..
إن مشكلة الثقافة لا تضم في مفهومها قضية الأفكار فحسب، وبذلك ينقلب العمل للإسلام إلى نادٍ فكري أو تجمع سياسي (أيديلوجي ) أو قطاع فلسفي،وإنما هي تشمل قضايا أعم من ذلك بكثير، إنها تعني فيما تعني: أسلوب الحياة في مجتمع معين، والسلوك الاجتماعي الذي يطبع تصرفات الأفراد في ذلك المجتمع، والتدريب العملي اليومي على ذلك، وتوازن الأبعاد في الإنسان المسلم وتوازي الخطوط للشخصية الإسلامية وعدم تقاطعها، إنها مجموعة العناصر الجوهرية في بناء الفرد والمجتمع..
الثقافة هي الجو والمناخ الذي يمتص فيه الفرد تلقائياً عناصر معينة فينطبع بها سلوكه وتوجهه الفكري، فيندفع إلى إتقان العمل وحسن الأداء، وديمومة البحث والتعرف على سنن الله في الآفاق لتسخيرها وحسن التعامل معها، وسننه في الأنفس لتربيتها وتوجيهها وتغييرها صوب الهدف الإسلامي الواحد، وقد يخطر ببال بعضهم أننا بذلك نريد مزيداً من الكتب نضيفها إلى المكتبة الإسلامية المترعة بالمفيد وغير المفيد، أو مزيداً من القراءة والمدارسة النظرية فقط بعيداً عن الممارسة والتربية الميدانية، أو يشتم من وراء الكلام توجهاً تربوياً أو خطاً تربوياً مقابلاً لغيره، يأتي كرد فعل لواقع معين، أو نريد للعمل الإسلامي أن ينقلب إلى مدرسة فكرية، والذي يدفع إلى هذا التصور هو عدم القدرة على الرؤية الكلية والعيش على صورة جزئية يعتبرها البداية والنهاية، ويعجز عن إدراك ما سواها مما قد يكون من مكملاتها.
والذي نريد أن يكون واضحاً ابتداءً: أننا نحاول أن نتلمس الطريق من خلال الحقائق الإسلامية والتربية الإسلامية والرؤية الإسلامية الشاملة والتربية العملية في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياة الصحابة.. إلى جانب استحضار العبرة من التجارب الإسلامية الكثيرة.
إن هذا التمزيق وهذا التجزىء والتقطيع في الرؤية الإسلامية مرفوض، وهو الذي يقبع وراء الكثير من معاناتنا، إننا لا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى مجموعة سواعد فقط يمكن أن تستخدم كوقود في معارك لا يكون للإسلام فيها نصيب، ويسهل خداعها بالبرق الخلبي أو بالفجر الكاذب، ووضعها في موقف حرج يسهل توظيفها واحتواءها، ولا نريد أن ينقلب العمل الإسلامي إلى ساحة استرخاء فلسفي، واجترار نظري، ومعارف باردة، وفقه أوراق ، وإيثار للراحة .
إعادة تشكيل الرؤية الإسلامية
إن المقياس والميزان الذي يحكم أعمالنا وأقوالنا هو ميزان الإسلام، وليس سلوك فرد أو جماعة أو مؤسسة مهما كان عنوانها كبيراً، ولا يمكن لأحد اليوم من القادرين على النظر والتبصر، الناظرين إلى مواقع العمل والجهاد في العالم الإسلامي، وبعض صور التضحية الرائعة التي تقدم النفس والمال، وتستسهل في سبيل الله كل شيء، وتستهين بالدنيا والتي يمكن أن تنتسب في إخلاصها وتضحيتها إلى عصر الصحابة والتابعين، لا يمكن لأحد أن يتهمها بعدم الإخلاص بعد هذا الذي قدمته، وإنما تبقى المشكلة كل المشكلة بالقدرة على الصواب والتصويب وتحقيق الشروط الفنية، وحسن الاستفادة من هذه الطاقات ووضعها في مكانها الذي هو مسؤولية القائمين على العمل الإسلامي، للأخذ بيد المخلصين في الطريق الصحية، وترجمة هذا الإخلاص إلى مردود إسلامي يكون في مصلحة الإسلام والمسلمين.
وهنا نرى أنفسنا مضطرين إلى العودة أكثر من مرة إلى إيضاح مظهر من مظاهر القضية الثقافية نعاني منه على أكثر من مستوى، ونظن أنه يأتي في مقدمة المشكلات التي تجب معالجتها ومطاردتها، ونحن في الطريق إلى صياغة الفرد المسلم، وإعادة تشكيل الرؤية الإسلامية الشاملة.
إن الهروب من بحث المشكلة والتستر عليها عليها، أو عدم إعطائها ما تستحق من المدارسة والدرس، والإيضاح والتدريب والأضواء الإضافية، يعني أول ما يعني: القبول بواقع المسلمين، ومواقع نشر الدعوة والعمل الإسلامي؛ وهذه تتلخص في السؤال التالي:
هل الانتماء للإسلام أم للجماعات والمؤسسات؟ وهل الالتزام بالأفكار أم بالأشخاص؟ ..
إن هذه القضية لا تعتبر مشكلة من الناحية النظرية، ولو كان ذلك كذلك لكان بالإمكان الحصول على الجواب الصحيح بسهولة، لكنها تبقى مشكلة على مستوى الممارسة والتطبيق، وكثيراً ما استهلك المسلمون من أوقاتهم وجهودهم تاريخيا، ولم تكن المشكلة التي يعانو ن منها مشكلة أفكار وإنما كانت مشكلة الاختلاف على أشخاص وظفت لها الأفكار وفصلت عليها الأحكام، وامتلأت الساحة الإسلامية بكثير من الإقطاعات البشرية والولاءات الشخصية كانت السبب الكبير في التدمير والقيل والقال وضياع العمر وذهاب الأجر .
الرشد الإنساني
ولا شك عندنا أن الانتماء للإسلام والالتزام بالمنهج، والطاعة المبصرة ، ضرورة لسلامة الطريق، ودليل الرشد الإنساني والحصانة الأكيدة ضد صور الإحباط والانكسار التي يمكن أن تلحق بالجيل نتيجة الانتماء للأشخاص، والعدول عن الانتماء للإسلام، وأن المطلوب إسلامية الإلتقاء مع الأشخاص على المنهج الصحيح والافتراق عليه (.. ورجلان تحابا في الله، اجتمعا على ذلك وافترقا عليه )؛ فالقيم الإسلا مية ثابتة معصومة، والأشخاص أعراض زائلون، والأحياء لا تؤمن عليهم الفتنة، وإن ميزان الكرامة: التقوى والعمل الصالح، وإن الذي يهمنا ويشكل المخرج الصحيح من مأساتنا هو: الحكم على العمل ومدى انطباقه على المنهج الإسلامي والقدرة على تمييز الخطأ والصواب، وإعطاء العلامة للأعمال وليس للأشخاص، والالتزام بالأدب الإسلامي عند وجود الخلاف..
فالأشخاص يقاسون بالمنهج الإسلامي والقيم الإسلامية، ولا يقاس الإسلام بهم مهما علا شأنهم، والذي يمثل محل الأسوة والقدوة بالنسبة للمسلم هو المعصوم عليه الصلاة والسلام..
وكل البشر يخطىء ويصيب ، ويؤخذ من كلامه ويرد إلاّ المعصوم صلى الله عليه وسلم، وهذا في نظرنا يشكل الضمانة الأكيدة لسلامة العمل واستمراره وسداده.. ذلك أن المشكلة في التصور الإسلامي الآ ن، كما يبدو أننا قد نصل في تقديس الأشخاص إلى العصمة عن الخطأ ـ إلى مرحلة الملائكة ـ فإذا تكشف لنا شيء من الخطأ ـ وهذا أمر طبيعي وكل ابن آدم خطاء ـ أنزلناهم فوراً إلى مرحلة الشياطين.. لذلك يقتصر التعامل في نظرنا إما مع ملائكة لا تخطىء أو مع شياطين جبلت على الخطأ والخطيئة !! أما التعامل مع البشر الذي يخطىء ويصيب، والقدرة على إبصار الصواب والخطأ وإعطاء كل أمر علامته، وعدم بخس الناس أشياءهم، فهذا لا يزال غائباً عن حياة بعض مسلمي اليوم.. والله تعالى يقول: (ويل للمطففين ) وبعضنا يظن أن التطفيف إنما يكون في الميزان والكيل فقط..
إن القيم معصومة وثابتة، كما قدمنا، والأشخاص أعراض زائلون وبشر خطاؤون، وقد تسقطهم أخطاؤهم، وقد يسقطهم أعداء الإسلام بوسائلهم الماكرة التي تتوجه أول ما تتوجه للدعاة لتحطيمهم، وذلك بإساءة سمعتهم، وقد تستطيع احتواء بعضهم وتوظيفه لسبب أو لآخر من رغبة أو رهبة، وقد يسقطون من تلقاء أنفسهم لأن القلوب بيد الرحمن يقلبها كيف يشاء، ولا سبيل إلى الحصانة ضد صور الانكسار والإحباط والتمزق إلا الالتزام بالقيم، والاعتصام بالكتاب والسنة، فهو الطريق الذي يبعث الأمل، ويدفع إلى العمل، ويقضي على اليأس والقنوط.
إن الالتقاء مع الأفراد والجماعات والمؤسسات والحكومات وسيلة وليس غاية بحد ذاته، الغاية تبقى دائماً: إرضاء الله ولا يجوز بحال من الأحول أن تنقلب الوسائل غايات أو تتلبس الوسائل بالغايات.. فيصبح شعارنا: خطأ الشيخ خير من صواب المريد !! كما قدمنا، وتسود مناخنا الثقافي الإسلامي مفهومات مغلوطة.. وتتوقف عملية المناصحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي صانت الرسالة الإسلامية والأمة الإسلامية في تاريخها الطويل من الانحراف، وحملتها على الولاء للمنهج وعدم التحريف والشذوذ الجماعي والعثرات المردية على طريقها الطويل، وحفظت القادة والزعماء والدعاة والمفكرين والعلماء من الافتتان بالرأي، والإعجاب بالنفس، والانزلاق بالخطأ، كما حفظت الأمة أن تقع فريسة لشذوذ أو تطرف أو غلو أو تعثر أو تمزق.
أهمية الرقابة العامة
هذا وقد تختلط قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة في بعض الأذهان اختلاطاً يكون من تلبيسات الشيطان، فتوهم أنها تتعارض مع مصلحة الإسلام أو جماعات المسلمين في عصر من العصور.. فيسود الإرهاب الفكري ويضمن الشيطان استمرار الانحراف ومتابعة الإنزلاق .
ولو أخذ المسلمون في اعتبارهم في الماضي أن حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تؤدي إلى إحداث تشويش أو اضطراب في الصفوف، وكفوا عن التنبيه عن الزلل والخطأ باسم وحدة الصف أو وحدة الأمة، لا نقطع المؤشر الحيوي، وهذا الضابط اللازم لكشف التيارات البعيدة عن هذا الدين باسم الدين، واختفاء كثير من الحقائق الإسلامية عن ساحة التصور الإسلامي السليم والثقافة الإسلامية الرشيدة..
إن التستر على الأخطاء باسم المصلحة العامة وحفظ الكيان، والتوهم بأن النصحية لأئمة المسلمين وعامتهم تودي إلى البلبلة والتمزق أمر خطير، وتكون محلاً للّعن الذي قصه الله على لسان الأنبياء لبني إسرائيل.. قال تعالى:
(لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكرفعلوه لبئس ما كانوا يصنعون ) (المائدة:78).
لذلك يبقى تصويب الخطوة وصوابها هو الأصل في نظرنا، وذلك مهما كانت مساحتها محدودة، وسيرها بطيئاً أن نكون على المحجة البيضاء النقية، ونستفرغ جهدنا في الإعداد والاستعداد، والبذل والعطاء، مستشعرين الأبعاد الإيمانية والأخلاقية لحركتنا وسيرنا وسلوكنا، أمناء على انتقال القيم الإسلامية صافية سليمة للجيل القادم، فقد يستبطىء بعضنا ثمرات الصواب ويقتضيه الاستعجال السير بخطوات عريضة، وقد يتجاوز بعض الحواجز الإسلامية، ويتساهل ببعض الضوابط الأخلاقية الإيمانية بوفرة النتائج وتحقيق المصلحة ودرء المفسدة وارتكاب أخف الضررين، ويظن في بعض المراحل أنه قادر على ذلك فيدع المركب السهل المشروع إلى المركب الصعب غير المأمون..
وبعد: فهل نصغي من جديد إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
(الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم )..
وقد يكون المطلوب الآن وأكثر من أي وقت مضى: العودة إلى تجديد الفهم للإسلام، واستبدال الممارسة للحياة الإسلامية..
[ربيع الآخر: 1403 هـ كانون الثاني (يناير): 1983م]
=======================================
هذا الكلام من 30 عام تقريبا ً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق